تعديل عنوان سلايد 1

ابحث عن هذا النص فى تحرير الاتش تى ام ال وغير هذا الوصف الى وصف الموضوع الخاص بك وتغيير رابطه باستبدال "#" الر رابط موضوعك - مع تحيات : سوفت العرب

تعديل سلايد 2

ابحث عن هذا النص فى تحرير الاتش تى ام ال وغير هذا الوصف الى وصف الموضوع الخاص بك وتغيير رابطه باستبدال "#" الر رابط موضوعك - مع تحيات : سوفت العرب

تعديل عنوان سلايد 3

ابحث عن هذا النص فى تحرير الاتش تى ام ال وغير هذا الوصف الى وصف الموضوع الخاص بك وتغيير رابطه باستبدال "#" الر رابط موضوعك - مع تحيات : سوفت العرب

تعديل عنوان سلايد 4

ابحث عن هذا النص فى تحرير الاتش تى ام ال وغير هذا الوصف الى وصف الموضوع الخاص بك وتغيير رابطه باستبدال "#" الر رابط موضوعك - مع تحيات : سوفت العرب

تعديل عنوان سلايد 5

ابحث عن هذا النص فى تحرير الاتش تى ام ال وغير هذا الوصف الى وصف الموضوع الخاص بك وتغيير رابطه باستبدال "#" الر رابط موضوعك - مع تحيات : سوفت العرب

Friday, May 31, 2013

مقاصد سورة الأنفال


سورة (الأنفال) هي السورة الثامنة في ترتيب السور القرآنية، إذ يبلغ عدد آياتها خمساً وسبعين آية. وهي سورة مدينة بالإجماع، وموضوعها العام الغنائم وسياسات الحرب والسلم.

أسماؤها 

عُرفت هذه السورة باسم سورة (الأنفال) منذ عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور. ولم يثبت في تسميتها حديث. وتسميتها بهذا الاسم؛ كونها افتتحت بآية فيها اسم (الأنفال)، وكونها أيضاً ذُكِر فيها حكم الأنفال. 

وتسمى هذه السورة أيضاً سورة (بدر). فقد روى السيوطي في (الإتقان) عن سعيد بن جبير، قال: قلت ل ابن عباس رضي الله عنهما: سورة الأنفال، قال: تلك سورة بدر. وسميت بذلك؛ لأنها نزلت في وقعة بدر الكبرى، وتعرض كثير من آياتها لوقائع هذه الغزوة المباركة.

وذكر البقاعي من أسمائها (الجهاد)، قال: لأن الكفار دائماً أضعاف المسلمين، وما جاهد قوم منا قط إلا أكثر منهم.

فضلها

روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه سئل عن الأنفال، فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين. قال الهيثمي: رجاله ثقات.

وفي أخبار وقعة القادسية، أنه لما صلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الظهر، أمر غلاماً -كان عمر رضي الله عنه ألزمه إياه، وكان من القراء- بقراءة سورة الأنفال، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها، فقرأها على الكتيبة التي تليه، وقرئت في كل كتيبة، فهشت قلوب الناس، وعرفوا السكنية مع قراءتها. قال مصعب بن سعد: وكانت قراءتها سنة، يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الزحف، ويستقرئها، فعمل الناس بذلك.

قالوا: ومن السنة التي سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بدر، أن تُقرأ سورة الجهاد عند لقاء العدو، ولم يزل الناس بَعْدُ على ذلك. وهذا يدل على فضل هذه السورة، وخاصة عند خوض المعارك.

مقاصدها

قررت هذه السورة العديد من المقاصد والأحكام المتعلقة بالقتال والغنائم، وقواعد التشريع، وسنن التكوين والاجتماع، والولاية العامة والخاصة، والعهود، وصلة الأرحام، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب. هذا ما قصدت إليه السورة من حيث الجملة، وتفصيل هذا الإجمال نسوقه على النحو التالي: 

* كون الأنفال لله والرسول؛ حيث قررت السورة خُمْس الغنائم لله وللرسول. وفي اقتران الرسول في هذا القسمة بالله تشريف له، وإعلاء لمكانته ومنزلته عليه الصلاة والسلام. 

* أن الإيمان الصادق يقتضي العمل الصالح من تقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله. وأن المؤمنين الصادقين الذين يكون لإيمانهم مثل هذه الثمرات الثلاث هم {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (الأنفال:32) التي قصروا أنفسهم عليها.

* أن الله تعالى يبلو المؤمنين بلاء حسناً بمثل النصر والغنيمة، كما يبلوهم أحياناً بلاء شديداً بالبؤس والهزيمة؛ تربية لهم، قال تعالى: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} (الأنفال:17)، وبكلا البلاءين يتم تمحيص المؤمنين.

* إرشاد المؤمنين إلى أن الحياة المعنوية، التي يرتقون بها عن أنواع الحياة الحيوانية، إنما هي فيما يدعوهم إليه الرسول من الإيمان والعمل بكتاب الله تعالى: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} (الأنفال:24). 

* إرشاد المؤمنين إلى سنة اجتماعية، وهي جعل الأموال والأولاد فتنة، أي: امتحاناً شديد الوقع في النفس، وتحذيراً لهم من الخروج في أموالهم ومصالح أولادهم عن الحق والعدل. فالافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف والإفراط، إذا لم تهذب بهداية الدين، ولم تشذب بحسن التربية والتعليم. وهذا أصل عظيم في تربية المؤمن نفسه على التزام الحق، وكسب الحلال، واجتناب الحرام، واتقاء الطمع والدناءة في سبيل جمع المال والادخار للأولاد. 

* تذكير المؤمنين بماضيهم، وما كان من ضعف أمتهم، واستضعاف الشعوب لهم، وخوفهم من تخطف الناس إياهم؛ ليعلموا ما أفادهم الإسلام من عزة وقوة ومَنَعة، وتمكن سلطانه في الأرض. ومعرفة تاريخ الأمة في ماضيها أكبر عون لها على إصلاح حالها، واستعدادها لمستقبلها. 

* إرشاد المؤمنين إلى ما يكتسبون به ملكة الفرقان العلمي الوجداني، وهو تقوى الله، {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} (الأنفال:29)، فتقوى الله تُكسب صاحبها مَلَكة، يفرق بها بين الحق والباطل، والخير والشر، والمصلحة والمفسدة، فيجري في أعماله على مراعاة ذلك في ترجيح الحق والخير والمصلحة على ما يقابلها من الباطل والشر والفساد.

* امتنان الله على رسوله الأعظم، بتأييده وبنصره وبالمؤمنين، وبتأليفه بين قلوبهم، ويا لها من منة عظيمة من مننه تعالى عليهم، ومنقبة هي أعظم مناقبهم، {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} (الأنفال:62-62).

* بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} (الأنفال:12)، أي: عند لقاء المؤمنين في القتال، وما علله به بعده من مشاقتهم لله ولرسوله، وتوعدهم بعذاب النار، {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب * ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} (الأنفال:13-14)، وفي هذا بيان لخذلانه تعالى لهم، وتمكين المؤمنين من قتلهم، وبيان عناية الله تعالى بهم.

*وصف حال الكفار بالدواب التي لا تسمع ولا تعقل، {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} (الأنفال:22)، فوصفهم بتعطيل مشاعرهم ومداركهم الحسية والعقلية، ووصفهم في آية أخرى بعدم الإيمان: {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون} (الأنفال:55).

* تقرير العديد من قضايا عالم الغيب، كالبعث والجزاء والملائكة والشياطين؛ فقد ذُكِرَ جزاء المؤمنين، وجزاء الكافرين، وجزاء الفاسقين المرتكبين لكبائر الإثم والفواحش. وذُكِرَ إمداد المؤمنين بالملائكة يثبتونهم في المعركة. وذُكِرَ إذهاب رجز الشيطان ووسوسته عن المؤمنين.

* فضح موقف الذين كفروا، الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وبيان عاقبة بذلهم للمال في مقاومة الإسلام، أنهم يغلبون في الدنيا، ثم يصيرون في الآخرة إلى عذاب النار.

* تحذير المؤمنين من سلوك مسلك الكافرين، وهو مسلك البطر وإظهار الكبرياء والعظمة ومراءاة الناس، وهي مقاصد سافلة إفسادية، لا تليق بصفات المؤمنين، الذين إنما يقاتلون لإعلاء كلمة الله، وتقرير الفضيلة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

* تقرير سُنَّة من سنن النفس، وهي تفاوت البشر في الاستعداد للإيمان والكفر، وفي الاستعداد للخير والشر، وبيان أن جزاء الله تعالى لهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة، إنما يجري بمقتضى هذا التفاوت.

* تقرير سنة من سنن الاجتماع، وهي كون الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والاختلال، الذي قد يفضي إلى الزوال، أو فَقْدِ الاستقلال، وكون هذا العقاب على الأمة بأسرها، لا على مقترفي الظلم وحدهم منها؛ وذلك أن الفتن في الأمم، والظلم الذي ينتشر فيها، ولا يقوم من أفرادها وجماعاتها من يقاومه، يعم فساده، فكما أن الجسد يتداعى ويتألم كله لما يصيب بعضه، كذلك الأمم.

* تقرير سنة من سنن الاجتماع، وهي كون تغير أحوال الأمم، وتنقلها في الأطوار من نِعَمٍ ونِقَمٍ، وشدة ورخاء أثراًَ طبيعيًّا فطريًّا لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والمَلكات التي تطبعها في الأنفس العادات، وتترتب عليها الأعمال، قال تعالى: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} (الأنفال:35).

* تقرير سنة من سنن الاجتماع، وهي كون ولاية الأعداء من دون المؤمنين من أعظم مثارات الفتنة والفساد في الأمة، والاختلال والانحلال في الدولة، كولاية المؤمنين في النصرة والقتال للكافرين الذين يوالي بعضهم بعضاً على المؤمنين في الحروب، فبعد أن بينت الآيات صفات المؤمنين بأنهم يوالي بعضهم بعضاً، وينصر بعضهم بعضاً، حذرت من ترك هذه الموالاة {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} (الأنفال:73).

* بيان وجوب إعداد الأمة كل ما تستطيعه من قوة لقتال أعدائها؛ وفي مقدمة ذلك المرابطة في ثغور البلاد حماية لها. وهذه المرابطة تشمل المرابطة المادية بالاستعداد العسكري، والمرابطة المعنوية وذلك بالتحصين الثقافي والفكري. {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} (الأنفال:60).

* بيان أن القصد الأول من إعداد هذه القوة والمرابطة، إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها؛ لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، مطمئنة على مصالحها، وهذا ما يُسمى بـ (السلم المسلح)، {ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم} (الأنفال:60).

* بيان أن شريعة الإسلام تفضل السلم على الحرب، إذا جنح العدو لها؛ إيثاراً لها على الحرب، التي لا تُقصد لذاتها، بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها؛ {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} (الأنفال:61).

* دعت السورة المؤمنين إلى المحافظة على الوفاء بالعهود، والالتزام بالمواثيق في الحرب والسلم، وتحريم الخيانة فيها سراً أو جهراً، وتحريم الخيانة في كل أمانة مادية أو معنوية، {لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (الأنفال:27).

* جعل الغاية من القتال في الإسلام حرية الدين، ومنع فتنة أحد واضطهاده؛ لأجل إرجاعه عن دينه، {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (الأنفال:39). 

* كون الثبات في القتال، وذكر الله عند لقاء العدو، وطاعة الله ورسوله، والصبر في ساحات القتال، كل ذلك من الأسباب المعنوية، التي يحصل بها النصر، {إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (الأنفال:45).

* بيان أن الفشل والخسران، وذهاب القوة، مرده إلى التنازع والشقاق، ومن ثم التفرق والتشرذم والضعف، {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (الأنفال:46).

التذييل في القرآن الكريم


من مظاهر انسجام النص القرآني وتماسك بنائه وإحكام بنيانه: تناسبُ أجزائه. ويدخل في هذا الباب كل المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تُعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النص القرآني، ومن هذا الباب ما يسمى بـ (التذييل)، فما المراد بـ (التذييل)، وما أنواعه، وما أمثلته من القرآن الكريم؟

تعريف (التذييل)

(التذييل) لغة مصدر (ذيَّل)، وهي جَعلُ الشيء ذيلاً للآخر. أما في اصطلاح البلاغيين، فقد عرفه الزركشي بقوله: "أن يُؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول؛ تحقيقاً لدلالة منطوق الأول، أو مفهومه؛ ليكون معه كالدليل؛ ليظهر المعنى عند من لا يفهم، ويَكْمُل عند من فهمه". ونحو هذا عرفه السيوطي فقال: "أن يأتي بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على المعنى الأول؛ لتأكيد منطوقه، أو مفهومه؛ ليظهر المعنى لمن لم يفهمه، ويتقرر عند من فهمه". وعرفه ابن أبي الأصبع بعبارة أوجز، فقال: "أن يُذيِّل المتكلم كلامه بجملة، يتحقق فيها ما قبلها من الكلام".

وحاصل هذه التعريفات أن (التذييل) تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها، تتنـزل منـزلة الحجة على مضمون الجملة، وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى.

الغرض من (التذييل) 

(التذييل) -كما يقول أهل البلاغة- ضَرْب من ضروب (الإطناب) من حيث اشتماله على تقرير معنى الجملة الأولى، ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. ومن هنا كان للتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير؛ لأن المعنى يزداد به انشراحاً، والمقصد اتضاحاً. وقد قال بعض البلغاء: للبلاغة ثلاثة مواضع: الإشارة، والتذييل، والمساواة. ويُستعمل (التذييل) في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة؛ لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد تأكد عند قوي الذهن، ووضح عند ضعيفه.

ومن أمثلة (التذييل) في النثر قول بعضهم: "قبول السعاية شر من السعاية؛ لأن السعاية إخبار ودلالة، والقبول إنفاذ وإجازة، وهل الدالُّ المخبر، مثل المجيز المنفذ؟"، فقوله: "وهل الدالُّ المخبر مثل المجيز المنفِّذ" تذييل ما تقدم من الكلام.

ومن أمثلة (التذييل) في الشعر قول الحُطيئة:

                        قوم هم الأنوف والأذناب غيرُهم       ومن يقيس بأنف الناقة الذنبا 

فاستوفى المعنى في الشطر الأول، وذيّل بالشطر الثاني.

وقد ذكر البلاغيون أن التذييل يأتي على قسمين: قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى به للتأكيد والتحقيق، وقسم يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر؛ ليحقق به ما قبله. وقد اعتبر ابن عاشور هذا القسم أقوى وأبدع من القسم الأول؛ لما فيه من عموم الحكم.

ومما جاء في القرآن الكريم متضمناً القسمين معاً قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} (التوبة:111)، ففي هذه الآية الكريمة تذييلان: أحدهما: قوله تعالى: {وعدا عليه حقا}، فإن الكلام قد تمَّ قبل ذلك، ثم أتى سبحانه بتلك الجملة لتحقق ما قبلها. والثاني: قوله سبحانه: {ومن أوفى بعهده من الله}، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر؛ لتحقيق ما تقدمه، فهو تذييل ثان للتذييل الأول. 

(التذييل) في القرآن الكريم 

وقع (التذييل) في القرآن بكثرة، وأكثر من نبَّه عليه من المفسرين الآلوسي وابن عاشور. وجاء في القرآن على ثلاثة أضرب: الأول: في ختام الآيات، وهو الأكثر. الثاني: أن يأتي آية برأسه، أن يأتي في وسط الآية. ونحن نذكر بعضاً من كلٍّ ضَرْب؛ ليتضح المراد، ولتستبين سبيل المؤمنين:

أولاً: التذييل في ختام الآية، ومن أمثلته: 

- قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا}، ثم قال عز وجل: {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ:17)، أي: هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور؛ فإن جعلنا (الجزاء) عاماً كان الثاني مفيداً فائدة زائدة.

- قوله سبحانه: {وقل جاء الحق وزهق الباطل}، ثم قال عز من قائل: {إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء:81)، وهو (تذييل) للجملة التي قبله؛ لما فيه من عموم، يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق؛ لأنه ضد الباطل، فإذا انتفى الباطل ثبت الحق. وبهذا كانت الجملة (تذييلاً) لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها. والمعنى: ظهر الحق في هذه الأمة، وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع، أنه لا ثبات له.
 
- قوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد}، ثم قال عز وجل: {أفإن مت فهم الخالدون} (الأنبياء:34)، وهذا تذييل للجملة قبلها بطريق الاستفهام، يفيد أن الخلود في هذا الحياة منفي عن كل مخلوق، فكل مخلوق مصيره إلى الفناء والزوال لا محالة.

- قوله سبحانه: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم}، ثم قال عز من قائل: {ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر:14)، وهو تذييل لما سبقه من أخبار؛ لتحقيق هذه الأخبار بأن المُخْبِرَ بها هو الخبير بها وبغيرها، ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو سبحانه وتعالى.

- قوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}، ثم قال عز وجل: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} (البقرة:108)، وهو تذييل للتحذير الماضي؛ للدلالة على أن المُحَذَّرَ منه كفرٌ، أو يفضي إلى الكفر؛ لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى.

- قوله سبحانه: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}، ثم قال عز من قائل: {إن الله واسع عليم} (البقرة:115)، وهو تذييل لمدلول {ولله المشرق والمغرب} والمراد سعة ملكه، أو سعة تيسيره، والمقصود عظمة الله.

- قوله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم}، ثم قال عز وجل: {إنه كان من المفسدين} (القصص:4)، وهو تذييل؛ لتأكيد معنى تمكن الإفساد من فرعون؛ ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.

- قوله سبحانه: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، ثم قال عز من قائل: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} (البقرة:158)، فهذا تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة، والمقصد منه الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل.

- قوله سبحانه: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم}، ثم قال عز من قائل: {والله ذو فضل على المؤمنين}، (آل عمران:152)، وهو تذييل مقرِّر ومؤكد لمضمون ما قبله.

- قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله}، ثم قال عز من قائل: {إن الله عليم بذات الصدور} (المائدة:7)، وهذا تذييل؛ للتحذير من إضمار المعاصي، ومن توهم أن الله لا يعلم إلا ما يبدو منهم.

- قوله سبحانه: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}، ثم قال عز وجل: {والله غفور حليم} (البقرة:225)، الجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين، وشمول الإحسان لهم، ونفي المؤاخذة عنهم.

- قوله سبحانه: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا}، ثم قال عز وجل: {ومن أصدق من الله قيلا} (النساء:122)، تذييل للوعد، وتحقيق له، أي، هذا من وعد الله، ووعود الله وعود صدق؛ إذ لا أصدق من الله قيلاً.

- قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح}، ثم قال عز من قائل: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} (التوبة:120)، وهو تذييل لما سبقه، يفيد عموم المحسنين.

ثانياً: التذييل في وسط الآية، والمثال عليه:

- قوله سبحانه: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم}، ثم قال عز وجل: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة:191)، فالجملة الأخيرة جاءت في وسط الآية، وهي تذييل للجملة السابقة لها، يفيد عموم الخبر.

- قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، ثم قال عز من قائل: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة:197)، فالجملة الأخيرة جاءت في وسط الآية، وهي تذييل للجملة السابقة لها، والآية لم تنته بعدُ.

- قوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ} (فاطر:42-43)، ثم قال عز وجل: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، وموقع هذه الجملة ومحملها على التذييل، يعم كل مكر وكل ماكر، وهي جملة وسطية، الكلام لم ينته عندها.

ثالثاً: التذييل بآية برأسها، والمثال عليه:

- قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} (ص:86)، ثم قال في الآية التالية: {إن هو إلا ذكر للعالمين} (ص:87)، فهذه الآية تذييل لسابقتها، تفيد عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين.

- قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} (فصلت:45)، ثم قال سبحانه: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت:46)، فهذه الآية تذييل لسابقتها؛ لأن {من} في الموضعين مفيدة للعموم.

- قوله تعالى: {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (الزخرف:22)، ثم قال عز وجل في الآية التالية: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير} (الزخرف:23)، تذييل، أي: فذلك شأن الأمم مع الرسل، كلما جاءهم رسول من عند الله يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار، أعرضوا عنه، وتمسكوا بعبادة ما كان يعبدوا آباؤهم من الأوثان.

فكل ما تقدم من الأمثلة المتقدمة، بأضربها الثلاثة من (التذييل) لما قبله، بعد تمام المعنى، إما على سبيل التأكيد، وإما على سبيل التقعيد.

والمتأمل في الأمثلة المتقدمة المتضمنة لأسلوب التذييل يجد أن بين مضمون الآية ومضمون التذييل انسجاماً، وتآلفاً، وتناسباً؛ فلا تجد آية عقاب تذيَّل بآية رحمة، والعكس صحيح، فإن البيان القرآني بأسلوبه ومضمونه يتجه نحو رعاية مطالب المعنى، وهو في الوقت نفسه يحرص على رعاية المبنى.

من أشراط الساعة .. بعثة النبي المختار


بُعث النبي –صلى الله عليه وسلم- والبشريّة هائمةٌ على وجهها، ليس لها طريقٌ تسلكه، ولا غايةٌ تتطلّع نحوها، ولا منهجٌ يضبط مسارها، وكانت بعثته في وقتٍ عصيبٍ كان الجهل فيه سيّد الكلمة، والخرافة منبع التصوّرات، والوثنيّة ديناً سائداً، في حالة من جاهليّةٍ جهلاء تموج بالأساطير، وليس فيها اتصالٌ للأرض بالسماء، ولا تمييزٌ بين حقٍ وباطل، وهدى وضلال، وحسنٍ وقبيح، انقلبت معها الموازين والأعراف حتى استوجبت بسببها غضب الله ومقته.

جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).

وبعيداً عمّا حقّقته بعثة النبي المختار من علاج ما وصلت إليه البشريّة من تردٍ عقدي، وخواءٍ روحي، والبحث في ذلك المجال، فإن لبعثته عليه الصلاة والسلام ارتباطاً بأحداث النهاية، وأشراط القيامة، وانتهاء قصّة الوجود البشري.

ونجد هذا الارتباط تبرز معالمه، وتتضح حقيقته، من خلال ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قال بإصبعيه هكذا -بالوسطى والتي تلي الإبهام-: (بعثت والساعة كهاتين).

وروى الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة في مصنّفه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بُعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له).

وروى الترمذي وصححه، ورواه أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى، فضّل إحداهما على الأخرى. وهذا الفضل المذكور في الحديث إشارة إلى التفاوت ما بينهما.

وتحتمل الإشارة بالأصبيعين: السببابة والوسطى أحد معنيين، وإن اتفقا على حقيقة قرب قيام الساعة، كما قال الإمام القرطبي في شرحه لصحيح مسلم ما نصّه: " حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها". 

أما المعنى الأوّل، فهو أن المقصود بالتمثيل ما كان من المسافة بين السبّابة والوسطى، فشبّه النبي –صلى الله عليه وسلم- قرب قيام الساعة بقدر ما بينهما.

وقيل: إنما كان مقصود النبي –صلى الله عليه وسلم- بالتمثيل، الإشارة إلى الفارق في الطول ما بين السبّابة والوسطى، واستدلّوا بما جاء في الرواية السابقة: "فضّل إحداهما على الأخرى"، وما جاء عن قتادة من قوله: " كفضل إحداهما على الأخرى".

يقول الإمام الطبري: " فضل ما بين السبابة والوسطى نحو نصف سبع، وكذلك قدر ما بين صلاة العصر في أوسط نهارها بالإضافة إلى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريباً"، ثمّ مثّل لذلك مثالاً للتقريب: " فإن كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سنة".

وقد حاول بعض العلماء استناداً إلى التفسير السابق أن يتوصّل إلى عمر الدنيا على وجه التقريب، وهو أمرٌ لا يخفى بعده عن قواطع الشريعة التي تدلّ على عدم إمكان ذلك، وقد ردّ عليهم الإمام ابن حزم بقوله: "وقد جاء النص بأن الساعة لا يعلم متى تكون إلا الله عز وجل لا أحد سواه، فصح أنه عليه السلام إنما عني شدة القرب، لا فضل طول الوسطى على السبابة، إذ لو أراد فضل ذلك، لأُخذت نسبة ما بين الأصبعين، ونسب ذلك من طول الوسطى، فكان يعلم بذلك متى تقوم الساعة، وهذا باطل".

وقال القاضي عياض: " حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الأصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا بالنسبة إلى ما مضى، وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستندوا إلى أخبارٍ لا تصح" ثم ذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم، وتفسيرهم بأن ما بقي هو خمسمائة سنة، فردّ عليهم قائلاً: "وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه، ومجاوزة هذا المقدار، ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه".

وبعيداً عن هذا التأويل غير المستساغ لعمر الدنيا، والتعامل غير الصحيح مع النصوص السابقة، فإن الصحيح المقطوع به هو أن مراد النبي –صلى الله عليه وسلم- من التشبيه المذكور هو القرب الشديد لقيام الساعة.

ومما يتّصل بهذه المسألة بيان أن مجرّد وجود النبي –صلى الله عليه وسلم- في تلك الحقبة التاريخيّة، وما هيّأه الله سبحانه وتعالى من قيام الأمة المسلمة، إنما هو وجود لنبيٍّ خاتمٍ للأنبياء بُعث في أمّة مختارة كُتب عليها أن تكون في آخر الأمم المشهودة، وأن في ذلك إشارتين مهمّتين: تحقّق خاتميّته –صلى الله عليه وسلم- وألاّ نبيّ بعده، وأن شمعة الحياة كادت تذوب بأكملها.

ففي الإشارة الأولى، يُعلّق العلماء على قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، أنه ليس بينه وبين الساعة نبي، كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، فسلسلة النبوة قد توقّفت، واتصال الأرض بالسماء قد انقطعت.

وفيما يتعلّق بالإشارة الثانية، فنستفيده من الدلالات الضمنية الآيات المتواترة الدالة على قرب قيام الساعة، قال الله عز وجل: {اقتربت الساعة} (القمر:1)، وقال سبحانه وتعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريباً} (الأحزاب:63).

وفي الصحيحين عنابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس) - وفي لفظ -: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس).

وقد فهم الصحابة هذا القرب الشديد لنهاية الدنيا، والذي حقّقته بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقد روى مسلم في صحيحه، أن عتبة بن غزوان رضي الله عنه خطب في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، يتصابها صاحبها"، والصرم: الانقطاع والانصرام، والحذاء: السريعة الخفيفة التي قد انقطع آخرها، والصبابة: البقية اليسيرة تبقى في الإناء من الشراب، ويتصاباها: أي يجمعها.

ولا منافاة بين تقريب أمر الساعة وبين قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل الشهير: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) فإن المراد بالأوّل بيان اقتراب أمر الساعة، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي، كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه، لكن سياقه يفيد قربها، وأن أشراطها متتابعة، كما قال تعالى في محكم كتابه: {فقد جاء أشراطها} (محمد:18).

ولعلمه عليه الصلاة والسلام بأن مبعثه مرتبط بأشراط الساعة، كان كثيراً ما يحذّر الناس منها ويذكّرهم بها، وصحّ عنه –صلى الله عليه وسلم- في مسلم، أنه كان إذا ذكر الساعة احمرّت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: (صبّحكم، ومسّاكم).

ولعل سائلاً يسأل: لقد مضت مئات السنين على مبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- ونحن مع ذلك نقول أن بعثته هي بين يدي الساعة، فيجيب الإمام السفاريني المتوفّى سنة 1188 للهجرة: "فإن قيل كيف يوصف بالاقتراب ما قد مضى قبل وقوعه ألف ومائة ونيف وسبعون عاما؟ فالجواب أن الأجل إذا مضى أكثره، وبقي أقلّه، حَسُنَ أن يقال فيه اقترب الأجل، ولا ريب أن أجل الدنيا قد مضى أكثره وبقي أقله، ولقرب قيام الساعة عنده تعالى جعلها كغد الذي بعد يومك، فقال: {ولتنظر نفس ما قدمت لغد} (الحشر: 18)، وقال تعالى: {إنهم يرونه بعيدا - ونراه قريبا} (المعارج: 6-7)، والأمر الذي ينبغي أن ينتبه إليه أن الباقي من الدنيا قليل بالنسبة لما مضى منها.

ويضربون لذلك مثلاً: فإنك إذا وضعت لمن لك عليه دين أجلاً طويلاً، كأن تأجّله خمسين عاماً مثلاً، فإذا انقضى من الخمسين خمسة وأربعون، فيكون موعد السداد قد اقترب بالنسبة لما مضى من الموعد المضروب.

وأخيراً: فإن بعثة البشير النذير –صلى الله عليه وسلم- إيذانٌ بختم النبوة ، وهذا الختم يدلّ على تمام الواجب الرسالي وانتهاء مهمّته للبشريّة، وهذا التغيّر دليل على انتفاء الحاجة إلى بعثة الإنبياء لوجود الشريعة الحاكمة لما بقي من البشريّة، حتى يأذن الله بطيّ صفحة الحياة ، ونهاية الدنيا، وحلول يوم الحساب.

التربية بالقدوة في السيرة النبوية

التربية بالقدوة من أهم وأمثل الطرق في ترسيخ المبادئ والأخلاق وتربية الأجيال، وهي طريقة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالمناهجُ والنظرياتِ التربويةَ في حاجةٍ دائمة إلى من يُطَبِّقهَا ويعملُ بها، وتظلُّ تلك المناهجُ نظرية ـ فقط ـ، ولا تحقق جدواها ما لم تتحول إلى سلوكٍ عَمَلِيٍّ للمربين أنفسهم، ولذا كان المنهجُ النبوي في إصلاحِ البشريَّةِ وهدايتها يعتمد على وجودِ القُدْوَةِ التي تحوِّل تعاليمَ ومباديء الإسلام إلى سلوكٍ عمليٍّ، وحقيقةٍ واقعة أمام الناس جميعاً، ولذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إذا أمر بشيء عمل به أولا، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه، فكان - صلى الله عليه وسلم - هو القدوةَ والأسوة العملية التي تترجم الإسلام إلى حقيقة وواقع، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " الآية أصل كبير في التأسي برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أقواله وأفعاله وأحواله ".
وقال ابن حجر في كتابه ( الإصابة ) حين عرف بالصحابي الجلندى ملك عمان: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إليه عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، قال الجلندى: لقد دَلَّنِي على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يهجر ( لا يتلفظ بقبيح )، وأنه يفي بالعهد وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي" .

وهذه بعض من المواقف التربوية بالقدوة من حياة وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - :

النَّحْرُ والحَلْقُ للتحلُّلِ من عُمْرَةِ الحُدَيِبِيَةِ :

لما صدَّ المشركون الرسولَ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عن البيت الحرام، حين أرادوا العمرة عام الحديبية، وبعد إبرام الصلح مع قريش، كان وقع ذلك عظيماً على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أمرهم - عليه السلام - بنحر ما معهم من الهَدْي ليُحِلُّوا من إحرامهم، ترددوا مع شدةِ حرصهم على طاعتِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهنا يتجلى الأثرُ العظيم للقدوة، إذ أشارت أمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها ـ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم هو أولاً فينحر ويحلق شعرَه، لأن صحابته سيقتدون به عند ذلك لا محالة، روى الإمام أحمد بسنده من طريق المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم - رضي الله عنهما - قصة صلح الحديبية في حديث طويل، ذكر فيه أنه لما تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( يا أيها الناس انحروا واحلقوا، قال: فما قام أحد، قال: ثم عاد بمثلها، فما قام رجل حتى عاد بمثلها، فما قام رجل، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل على أم سلمة فقال: يا أم سلمة ! ما شأن الناس؟، قالت: يا رسول الله قد دخلهم ما قد رأيت، فلا تكلمن منهم إنساناً، واعمد إلى هديك حيث كان فانحره، واحلق فلو قد فعلت ذلك، فعل الناس ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدا حتى أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق، فقام الناس ينحرون ويحلقون ) .

القدوة في العبادة : 

أداء العبادة أمام الأطفال والصغار من أساليب تعليمهم وتربيتهم على أدائها صحيحة، بحسب الكيفية التي أدى بها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه العبادة، فهو القائل صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يجعل لبيته نصيبا من صلاة السنن، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا) رواه مسلم .

وفي قصة ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ وصلاته مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأكيد على التربية بالقدوة في العبادة، فعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( بِتُّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الليل فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا، وقام يصلي، قال: فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره، فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله ) رواه البخاري .
ومن عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما قال أنس ـ رضي الله عنه ـ حين سُئِل عن صوم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ( كان يصوم من الشهر حتى يرى أنه لا يريد أن يفطر منه، ويفطر حتى يرى أنه لا يريد أن يصوم منه شيئا، فكنت لا تشاء أن تراه من الليل مصليا، إلا رأيته مصليا، ولا نائما، إلا رأيته نائما ) رواه الترمذي .

القدوة في الكرم :
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( ما سُئِل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم اسلموا فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (الفقر) ) رواه مسلم .
وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجودَ الناسِ بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حينَ يلقاه جبريلُ ) رواه البخاري .

القدوة في العفو :

على الرغم من تعدد أشكال الأذى البدني والنفسي الذي تعرض له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أنه ضرب المثل الأعلى والقدوة الحسنة ـ للمسلمين عامة، وللمربين والدعاة خاصة ـ في العفو عن المسيء، والصفح عن المخطيء، فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة قِبَل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟، قال: قلتُ: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟، قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرِض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعاقبه وجلس ) رواه البخاري .

ومن أعظم مواقف القدوة في العفو موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، بعدما أخرجوه منها وآذوه أشد الإيذاء، ونصره الله عليهم، قام فيهم قائلاً: (ما ترون أني فاعل بكم ؟!، قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، فقال: أقول كما قال أخي يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء) رواه البيهقي.

القدوة بالحلم :

الحلم صفة مهمة للداعية والمربي، ولذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لا تستفزه الشدائد، ولا تغضبه الإساءات، فقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من أساء إليه وجهل عليه، وفي ذلك قدوة وتربية عملية لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ على الحلم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشي مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أثّرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء ) رواه البخاري .

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( خدمتُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ عشر سنين، لا والله ما سبني سبة قط، ولا قال لي أف قط ، ولا قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته ) رواه أحمد .

المسجد النبوي، وغزوة الأحزاب : 

شارك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بناء المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وأسهم بنفسه في العمل جنبا إلى جنب مع المهاجرين والأنصار، وعندما رأى الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ رسولهم الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطيهم القدوة العملية في العمل، ويَجْهد كما يجهدون، نشطوا في أداء المهمة بهمّة عالية، وعزيمة لا تلين .

وفي غزوة الأحزاب أعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك القدوة العملية في مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال، فقد تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، المهمة الشاقة في حفر الخندق، وكان لمشاركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفعلية، لأصحابه الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت عليهم، فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أثناء حفره يردد، أبيات عبد الله بن أبي رواحة ـ رضي الله عنه ـ :
                    اللهم لولا أنت ما اهتدينا        ولا تصدقنا ولا صلّينا
                     فأنزلن سكينة علينا           وثبّت الأقدام إن لاقينا
                    إن الألى قد بغوا علينا         وإن أرادوا فتنة أبينا

والمسلمون يردوا عليه قائلين:
 
                   نحن الذين بايعوا محمدا      على الإسلام ما بقينا أبدا 

وفي ذلك تعليم وتربية للقادة والمربين ألا يتميزوا عن غيرهم، وأن يعطوا القدوة بفعلهم، فإعطاء الناس القدوة في مشاركتهم عمليا في آلامهم وآمالهم يرفع قيمة المُرَّبِّي والقائد والداعية لديهم، إذ يشعرون أنه واحد منهم، وذلك يدفعهم لمزيد من البذل والهمة، والسمع والطاعة، ويشيع روح الود والإخاء، ويسهم في بناء علاقة إنسانية وطيدة بين المُرَّبِّي والمُرَّبَّى والمجتمع كله، وقد عبر عن هذه المعاني أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنشادهم :
            
                لئن قعدنا والنبي يعمل           لذاك منا العمل المُضَلل

تعتبر السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها مدرسة نبويّة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المعاني التربوية العظيمة، التي تضع للدعاة والمربين منهج التربية الصحيح، وتبين لهم وسائل الإصلاح ـ للفرد والمجتمع ـ، والتي منها التربية بالقدوة والأسوة الحسنة، قال الله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) ..

ومن لم يجعل الله له نورا...


في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تفيد أن الهداية إنما هي توفيق من الله سبحانه لعباده، غير أن هذا لا ينافي أن يتعرض العبد لأسباب الهداية، طلباً لها، وسعياً للوصول إليها؛ لينال رضا الله في الدنيا والآخرة. كالمريض يأخذ الدواء طلباً للشفاء، مع أن الشافي في الحقيقة هو الله رب العالمين، لكنه سبحانه أقام أمر الدين -وكذلك أمر الدنيا- على أسباب لا بد للإنسان أن يعمل على تحصيلها؛ لكيلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة.

ومن الآيات التي تؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه بداية قوله سبحانه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور:40). جاءت هذه الآية في سياق بيان أعمال الذين كفروا، مشبِّهة أعمالهم بالسراب، الذي يبدو للناظر كأنه ماء، وهو في حقيقة الأمر ليس إلا سراباً خادعاً، لا يروي من عطش، ولا يغني من ظمأ. فجاءت هذه الآية تذييلاً لما سبقها؛ لتقرر حقيقة مهمة مفادها: أن الهداية من الله سبحانه، فمن لم يوفقه الله لأسبابها، فلا سبيل له إليها.

وقد ذكر المفسرون ثلاثة أقوال في المراد من هذه الآية:

الأول: أن المراد من (النور) في الآية الدين والإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له. وعلى هذا يكون المعنى: من لم ينور الله قلبه بنور الإيمان، ويهده إليه، فهو في ظلمة عمياء، لا نور له، ولا يهتدي أبداً.

الثاني: أن المراد من (النور) في الآية الهداية في الدنيا، أي: من لم يهده الله في هذه الدنيا، فلا يهديه أحد، وهذا كقوله سبحانه: {ومن يهد الله فما له من مضل} (الزمر:37)، وقوله عز وجل: {ومن يضلل الله فما له من هاد} (الرعد:33). وهذا القول هو الأرجح فيما يُفهم من كلام المفسرين. 

الثالث: أن المراد من (النور) الهداية في الآخرة، والمراد بحسب هذا القول: من لم يرحمه الله، وينور حاله بالعفو والرحمة، فلا رحمة له. أو من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. وقد أخرج ابن المنذر عن أبي أمامة ما يشهد لهذا القول، قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منـزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا -ترتحلوا- منه إلى منزل آخر، وهو القبر. بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون إلى مواطن يوم القيامة، وإنكم لفي بعض تلك المواطن حين يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نوراً، ويُترك الكافر والمنافق، فلا يُعطى شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه {أو كظلمات في بحر لجي} إلى قوله: {فما له من نور}، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير. 

والحق أن هذه الأقوال لا تعارض بينها، بل يُكَمِّل بعضها بعضاً، فإن المؤمن بدين الإسلام لابد له أن يصل إلى طريق الهداية، ومن وصل إلى طريق الهداية لا بد أن يلتزم ما أمر الله به، وما نهى عنه، ومن التزم شرع الله لا بد أن يكون من الفائزين يوم القيامة، كما قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (البقرة:25).

والنقطة المحورية التي تنبه إليها الآية الكريمة هي: أن الهداية إنما تكون بتوفيق من الله وتيسير منه سبحانه، والعبد مطالب أن يطرق باب أسباب الهداية كما يطلب باب أسباب الرزق، فكما أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، وهو القائل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:6)، إلا أن العبد مطالب -في الوقت نفسه- بأن يسعى في تحصيل الرزق، ويتعرض لأسبابه كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (هود:15)، فكذلك أمر الهداية، فإن العبد مطالب بتحصيل أسبابها، وسلوك الطرق المؤدية إليها؛ وذلك لا يكون إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعرف على سنن الآفاق والأنفس التي بثها سبحانه في هذا الكون، والسير على سَنَنِها.

والآية التي معنا جاء مضمونها في آية أخرى، تؤكد أن أمر الهداية إنما يكون بتوفيق الله العبد لأسبابها، وأن كل ما على العبد القيام به، إنما هو الأخذ بأسباب الهداية، تلك الآية قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} (الحديد:28)، فهذه الآية واضحة بأن الوصول إلى الهداية لا يكون إلى بالأخذ بأسبابها -وهو وَفْق الآية- تقوى الله، وتقوى الله كلمة جامعة، تعني الالتزام بشرع الله سبحانه، فإذا كانت آية النور تهتم بإبراز جانب النتيجة = الهداية، فإن هذه الآية -آية الحديد- تهتم بإبراز جانب الأسباب = الالتزام بشرع الله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

على أن الأمر المهم هنا، أنه ليس في آية النور حجة ومستمسك لمن يقول من الكفار: إن الله لم يُرِد لي الهداية، فهذا كلام لا وزن له في ميزان الشرع، وهو كلام من لم يفقه شرع الله؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطلب أسباب الهداية، وأمر بالسعي في تحصيلها، ألم يقل سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69)، فقد علق سبحانه حصول الهداية على الجهاد في سبيله، ومن معاني الجهاد في سبيله جهاد النفس في طلب الهداية، والتعرف على سبل النجاة. فالأمر في المحصلة رَبْطٌ للنتائج بأسبابها، وأسباب تؤدي إلى نتائج محددة، كل ذلك بتوفيق الله سبحانه؛ لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً واجعل لي نوراً) متفق عليه.

حكم العمل في تحميل الأفلام الأجنبية الخالية من مشاهد جنسية


السؤال
أشترك في بعض المواقع التي أرفع عليها الملفات وأربح عندما يحمل الناس هذه الملفات بنسب متفق عليها، وسؤالي هو: ربحي يعتمد على رفع الأفلام الأجنبية على مواقع أجنبية، علماً بأن لهذه الأفلام تصنيفات معينة في موقع: IMDB.. تصنيفات من حيث محتوى الفلم ـ أي به مشاهد جنسية أو لا، وهكذا ـ فأنا أرى محتوى الفلم قبل رفعه ولا أرفع إلا الأفلام المحترمة والمفيدة والتي لا تحتوي على مشاهد جنسية فاضحة، علماً بأن من يحمل هذه الأفلام هم أجانب فقط، ويوجد الكثير من الرافعين غيري في هذا الموقع، فأرجو من حضراتكم إفادتي هل ربحي هذا مباح؟ وإلا فسأغير مجالي إلى الربح من رفع الأنمي ـ الأفلام الكرتونية ـ والألعاب، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه. وشكراً.
الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا يجوز لك العمل فيما ذكرت، لأنه لا يخلو من حرام في الغالب، فالأفلام الأجنبية في غالبها تشتمل على كشف للعورات وأفعال قبيحة واختلاط محرم وأفكار منحرفة وغيرها، وإن لم تشتمل على مقاطع جنسية فاضحة، فإن ذلك لا يبيح مشاهدتها ولا تحميلها إذا اشتملت على ما ذكرناه من محاذير، وما اكتسبته من ذلك العمل يعتبر كسبا خبيثا، لكن إن كنت جاهلا بحرمة ذلك وتبت منه وكففت عنه فلك الانتفاع بما كسبته، لأن الله يقول: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ {البقرة:275}.

Thursday, May 30, 2013

الحرم المكى

بث مباشر للقرآن الكريم من الحرم المكى